sábado, 3 de julio de 2010

تحت علامات الغرق. سالومي كوادالوبي إنخيلمو. مدريد. إسبانيا




تحت علامات الغرق

سالومي كوادالوبي إنخيلمو
 مدريد. إسبانيا.
الفائزة بـ "جائزة معبر المضيق" 2009. فئة الإسبانية.
ترجمة: مونى عبوسي



- أنا فقط أردت تجنب ضرر اكبر. هذه مهمة كل ضابط.
- ألا ترى أنك تخليت عن أناس وتركتهم  ليلقون حتفهم؟ يسأل النائب العام وهو يحاول جاهدا اخفاء قرفه.
بعض الناس لم يستحملو فكرة الموت تحت أشعة الشمس الحارقة وفضلوا الانتحار بينما كان أصدقاؤهم نيام وآخرون استغلوا الوضع لاغتيال و الاستيلاء بدون رحمة على مكاييل نبيذ المرحومين - أخر ما يتبقى من المؤونة التي تحملها السفينة - او للاحتماء في مكان أكثر أمانا في الطوف المتمايل، الذي لا يسع سطحه لإيواء كل هؤلاء المساكين الذين يتكدسون فيه.
الطوف لم يكن مهيأ لتحمل كل ذلك الثقل، يتمايل وتلطمه الأمواج من كل جانب. فقط 




منتصف الطوف يمنح القليل من الحماية. وفعلا العشرين شخص الذين شغلوا حافة الطوف ولسوء حظهم جرفتهم الامواج في الليلة الأولى. منذ ذلك الحين والوقت يمر ببطء شديد بسبب ضيق المكان وقلة القوت، والركاب اضطروا الى الإلقاء بالمرضى المشكوك في نجاتهم الى عرض البحر.
الدكتور "سافيني" قام بانتقاء الضحايا وقرر من منهم يموت على الفور ومن يستمر على أمله في النجاة.
- هل تعرف كم من شخص وجدت السفينة الشراعية "أركوس" على قيد الحياة يوم السابع عشر يوليو؟
-  فقط خمسة عشر من مائة وأربعين شخص. أنت تخليت عنهم! خمسة عشر هيكل عظمي. خمسة عشر طيف عجف، كلهم فقدوا عقولهم من جراء شرب البول وماء البحر والتغذي من لحم الميتة.
كانت أجسامهم منهوكة وخمسة منهم ماتوا بضعة أيام بعد انقاذهم. كل من تمكن من النجاة لا يستطيع ان يعود الانسان الذي كان من قبل. غيرت حياتهم الى الأبد. قرارك غير حياتهم الى الأبد.
- وماذا أردتني أن أفعل؟- يسأل برباطة جاش تقترب من اللامبالاة، أو حتى من العجرفة التي تعود عليها الارستقراطيون مثله في معاملتهم لأتباعهم- قوارب النجاة لم تكن كافية  لنقل كل الطاقم والركاب الى اليابسة. أؤكد لك أنني حاولت جر الطوف الى الضفة. و لكن ثقلها حال دون ذلك. كان من المستحيل أن ننقذهم كلهم. وأخير خضعت إلى طلب الركاب والضباط وقمت بقطع حبال القطر. فكرت انه من الأحسن أن ينقذ البعض على أن يموت الكل.
- طبعا، أنا لا أشك في ذلك. ربما هو فقط من باب الصدفة أن يبقى هؤلاء الضباط والأرستقراطيين على متن السفينة. وربما من باب الصدفة أيضا أن المائة وتسعة وأربعون شخص الذين تركتم على غير هدى، أناس متواضعين من الطاقم. أكيد ان هذا لم يؤثر ولم يغيرأي شيء في قرارك. قررت مصيرهم وطبعت حكم موتهم.
اظن أن هذه النكبة لا علاقة لها بقصور كفائتك ولا حتى بعجرفتك التي منعتك من سماع نصائح أشخاص أكثر خبرة منك في الملاحة.
مضت خمسة وعشرون سنة وأنت بعيد عن البحر وعن القوات عندما بدأت السفينة "ميدوسا" تخضع لأوامرك. أظن انه حتى شهادات الذين يعتبرونك جبانا، تمكنت من زرع الفوضى، وأن إعطاءك وإلغاءك الأوامر بصفة متتالية لأتباعك ليست إلا هراءات وتلفيقات من الضباط الذين تمكنوا من النجاة.
بدون شك لا علاقة لكل هذا بقلة خبرتك في التحكم في السفينة، التي جعتلها تبتعد عن السفن التي كانت متوجهة أيضا إلى ساحل السنغال! ولم تكن أبدا عدم كفاءتك سببا في تصلب السفينة، في رمال "أرغين"، منطقة مشهورة بمياهها الشفافة وبحرها الهادئ!
القبطان يسمع كل ذلك باهتمام ويلزم سكوتا قاطعا. فهو يعرف ان الرأي العام يريد إدانته.
- لويس الثامن عشر سيخضع أكيد إلى ضغوط الشعب، رغم إخلاصك للملك البربوني. ليس هناك من شك في أن الكل سيوليك ظهره. حتى زوجات الأسياد الذين كانوا على متن السفينة واللواتي كن يرجونك أن تقطع الحبال. سيستغلن أي تجمع في الصالونات الأرستقراطية ليبدين استنكارهن لما حدث. الربان هو آخر من يغادر السفينة والكل يعرف ذلك...

- بالله عليكم افصلو هذا الطوف! ما أكبره وما أثقله! سيجرفنا إلى قاع البحر. ألا ترون ذلك؟
تقول صارخة زوجة الزعيم السينغالي الكولونيل "جوليان ديزير شمالز".
- ولكن على متنها اشخاص! لا يمكننا التخلي عنهم!
 يعترض أحدهم بصوت خجول.
- أفصلوهم! سنموت كلنا!
- نعم! أقطعوا هذه الحبال اللعينة قبل فوات الأوان! هم سيفهمون  من أنفسهم أننا  نعجز عن جرهم طيلة المائة وستون كيلومترا التي تفصلنا عن اليابسة. هم كانوا ليفعلو نفس الشيء.كانوا سيتخلوا عنا. في أحسن الاحوال المراكب لن تستحمل هجمات الجموع وسنغرق كلنا. وفي أسوء الأحوال سيغتالوننا بدون رحمة ويلقوا بجثثنا إلى عرض البحر.
القبطان يرى كيف تختفي تدريجيا علامات الإنسانية من وجوه الركاب الوجهاء. وبدأ يفهم أن الهلع والأنانية انتصروا نهائيا على الإنسانية.
أصدر الأمر بنفسية منهزمة وبكل خضوع ، متأكدا انه بعدها سيدخل مباشرة إلى التاريخ، بعد مسيرة  غير متميزة في الأسطول( والتي لا تخلو ايضا من النجاحات خصوصا بشأن وفائه للملكية ولو إن كان ذلك يعني النفي.)
تلك السنوات الطويلة في لندن وكوبلينزا كانت لا بأس بها. صالوناته الأرستقراطية حيث حصل على درجة قبطان، رغم أنها كانت عارمة بالأخطار وكانت تخبئ أقل من المياه الإفريقية.

هذا الجسم الضخم الذي يسع عشرين على سبعة أمتار والذي بنوه من ألواح وقطع سوار وحبال، بدأ يختفي في الأفق. المحظوظون القلة الذين يبتعدون في زوارق النجاة لا يستطيعون حتى رؤية أسارير وجوه الركاب المبتعدين. بفضل الله لم تعد تسمع صرخاتهم  اللجوجة في طلب النجدة، لم تعد تسمع توسلاتهم ولا صلواتهم. تقريبا كما لو لم يكونو أبدا موجودين هناك.


- فرديناند، من فضلك! ابسط ذراعك الأيسر قليلا... قليلا فقط.
- يا إلهي تيودور! لا ترغمني على الإقتراب سنتيمترا واحدا من هذا الشيء وإلا فسيغمى علي.
يعارض الرسام الشاب الذي تحول إلى عارض دون أن يبدل أي مجهود في إخفاء استياءه. وبينما يتحدث، تحاول عيناه تفادي هذا الشيء الذي يسبب له كل الكرب. يحسب أنه بتفادى النظر إلى الجثة ستختفي لوحدها.
- الفن أهم من راحة ورفاهة الرسام. وإن كان ذلك يسبب له المعاناة. وطبعا أهم من أهواء ونزوات من يمثل فقط مجرد عارض! يضيف باستهزاء.
- فكر في كل ما تعنيه لي هذه اللوحة، أنا صديقك. فكر في كل المجهودات التي أقوم بها من أجل إبداعها. أنت تعرف جيدا أنني اكتريت هذا الاستوديو خصيصا لرسمها. القماشة كبيرة جدا، لم تكن هناك إمكانية رسمها في مكان آخر. ستكون لوحة هائلة ولا أحد سيستطيع إغماض عينيه ولو للحظة وهو أمامها. لا أحد يمكنه إدارة وجهه أمامها ولا التظاهر باللامبالاة.
هل تعلم كم دفعت في تصميم الطوف؟ وعدت نفسي أن هذه اللوحة ستكون محط اهتمامي حتى أراها مكتملة. وعلى هذا النحو ستكون الأمور. أرأيت؟  يسأل بينما يزيل القبعة عن رأسه.
حلقت ذقني لكي أتأكد أنني سأوفي بوعدي. سأخرج من هذا الاستوديو عندما ينمو الشعر وأتمكن من التجول في الشوارع بدون خجل وبرأسي مرفوع. هل تعتقد انني أفعل هذا فقط من أجل الشهرة؟
- بدون شك هذا مشروع هائل. وأؤكد لك أنني أقدر كل ما تعتمده وأقدر عزمك. ولكن، ألا تظن أنك تعديت الحدود باستعمالك الجثث أيضا؟
وأخيرا يجرأ على النظر إلى الأجسام الشاحبة التي تتكدس وتتراكم عارية إلى جانبه.
- هل تمزح؟ لم أصادف أبدا عارضين بهذه الدرجة العالية من الإحتراف. يمضون ساعات عديدة في نفس الوضعية ولا يستاؤون ابدا من ذلك.
لكن أمام النظرات المستنكرة للزميل، الفنان يغير النبرة الطائشة التي يحب استعمالها مع أصدقائه المقربين.
- إسمع، فرديناند، أعرف أن العمل بهذه الطريقة كريه وخصوصا في هذه الأجواء. ولكن كنت أحتاج إلى هذه الأجسام لكي أشعر بفظاعة الموت ولكي أتمكن من تشكيله بكل واقعية. وهؤلاء البؤساء المساكين لن يفقدوا قيمتهم لمجرد أنهم أمضوا بعض الأيام مستلقين على أرض استوديو فنان متواضع! يقول مشيرا للجثث التي لم يطالب بها أحد مشرحة مستشفى "بوجون". أجسام مبتورة الأذرع والسيقان ورؤوس أشراء.
على العكس، سيصبحون أبطال قضية عظمى. سيصبحون أبطال صراع أهم منك ومني.
لا تنس أننا نفعل هذا من أجل فضح الفجاعة. هذه اللوحة ستغير العالم. ستعيد النظر إلى كل من لا يزال على عماه. سترغم السماع على كل من يتظاهر بالصمم. هذه اللوحة ستكون صرخة تعلو وتعلو كي تشق الآذان لطلب الحق. هذه اللوحة ستكون راية لمجتمع جديد وأفضل، حيث تعم المساواة والاخوة.



- "طوف الميدوسا" لوحة زيتية على قماش. مقاييس اللوحة كما تلاحظون كبيرة جدا. خمسة أمتار على أكثر من سبعة. رسمت اللوحة عام 1819 وهي إحدى أكثر لوحات العصر الرومانسي شهرة. مبدعها هوالرسام الشهير تيودور جريكو.
ينصت الى صوت مرشد المتحف الرتيب كما لو كان في حلم. يشعر انه فقد قدرته على تتبع كل ما يقوله المرشد. فتنته الأجسام المائلة وأخذت عقله.
- هل نتابع سالفادور؟
- لا، لا. يجيب ملتبسا. أظن أنني سأبقى جالسا هنا المزيد من الوقت. هلكت قدماي من المشي. زيار ة "اللوفر" في يوم واحد هي فعلا حماقة، كما لو أردت زيارة البرادو دفعة واحدة.
استمر انت مع المجموعة. سألحق بك حالا. سأحاول أن أرتاح قليلا. يضيف محاولا التظاهر بالحيوية وراحة البال.

الأمواج تتعالى وتهدد بغرق المركب. يبقى القليل فقط على قيد الحياة وليس بوسعهم حتى الحركة. تقريبا لا أحد يفكر في إمكانية النجاة. أغلبهم ينام أو يهلوس متكأ على أجسام زملائه الموتى.
البعض منهم فقدوا الوعي من جراء الحروقات التي سببتها اشعة الشمس الهالكة.
هناك فقط شاب لا يزال يلح على التلويح إلى الأفق. كما لو كان فعلا يؤمن بأن النجاة قريبة أو أن الخلاص أكيد.
والعجوز أكيد كل التأكد ان كل مجهودات الشاب فانية ولا جدوى منها. قوته تذهب هباء وعليه أن يسترجعها  من الوليمة الكريهة.
العجوز يتشبت بجثة ابنه ولن يسمح لأي أحد أن يقترب منها ليشبع جوعه.
يسيرون على غير هدى في نعش كبير حيث لم يتبقى مكان للأمل.
الرجل المتقدم في السن ينظر إلى الشاب وضحكة ساخرة مرسومة على شفتيه المتشققتين.
- لا تتعب نفسك ايها الفتى. ألا ترى أن الموت قريب؟ ألا ترى أننا في الجحيم؟ تحرر من أوهامك يا فتى! حاول العديد ذلك ولكن مستحيل الهروب أو النجاة من جهنم.

أبهرته دائما هذه اللوحة. يؤثر في نفسيته اليأس الذي تنتحه والرؤيا العارية للإنسانية التي تتيحها. تخبئ صورة قاسية للحياة. يمكن أن يمضي هناك ساعات وساعات بيد أنه لا يستطيع النظر إليها والشعور بها كما قبل. لا يمكنه أن يتجنب وضع اسم لكل وجه من الوجوه ولكل التعابير الغائبة. هذا الشيء لا يحصل مع الجثث. في أغلب الأحيان النجاة لا يمكنهم حتى إعطاء اسماء زملائهم الموتى. يقبعون في القوارب ويسافرون غرباء حتى يصلون إلى وجهتهم أو يموتون في المحاولة. لا تبقى لهم قوة ولا حتى على التفوه بكلمة. يحتاجون إلى كل طاقتهم لتحمل البرد الشديد والجوع. يشددون اسنانهم لكي لا يصرخوا من الألم عندما تحرق  وتقرح جلودهم أشعة الشمس.
في مرات معدودة فقط يتمكنون من حكي قصصهم عند الوصول. ولكن هذا لا يهم، يكفي النظر إلى عيونهم لتتأكد فورا من أن تجربتهم كانت قاسية جدا ولا يقدر على  تحملها أي إنسان.


يبدو غارقا في أفكاره، غير مكترث بما يدور حوله، إلى أن سمع الصوت الدافئ الذي يتوجه إليه.
- مرعب أليس كذلك؟
- بدون شك! يجيب مباشرة بكلمات بالفرنسية.
الفتاة التي تجلس بجانبه ترضع صغيرا بكل تحفظ. لا يمكنه إبعاد نظره من الجسمين. أصبحا فجأة يجلبان كل اهتمامه ولم يعد للوحة أي وجود. ولا حتى يخطر على باله انه ليس من اللائق اكثار الحملقة في هذا النوع من المشاهد الحميمية.
من السهل ان يعتبره كل عابر شخصا فاسدا، بالرغم من أن نظرته تخلو من اي غلمة. فهو ينظر ولا يرى صدرا نظرا بل ثدي فتاة في منتصف العمر تمتنع عن قضاء يوم عادي مع العائلة في الشاطئ بينما آخرون يمدون يد المساعدة للنجاة.
أعطيني إياه واعتني أنت بالأم.
 لا عليك. لدي تجربة كافية مع هذه الأشياء. أطعمت أفواها كثيرة. تشرح وهي تنظر إلى الاربعة اطفال الذين يلمحونها من تحت الشمسية.
اللون الزيتوني ينعكس في اللون الأبيض: الطفل إلى صدرها ولون الشراشف التي تغطي الأجسام الهامدة فوق الرمال.
عملها مليء بالتناقضات، ثقله كالبلاطة ولكن في بعض الأحيان يجعل القلب أخف من الريشة. عملها يجعلها تشهد مواقف مريعة بلغها الإنسان ولكن أيضا يمكنها أن تشهد نبل الإنسان العابر.