sábado, 5 de junio de 2010

عندما نحلم بالسردين

عندما نحلم بالسردين

سعيد بوكرامي
المرشح النهائي لجائزة "معبر المضيق" 2008. فئة العربية


 أعتقد أني أحب السمك والبحر، لكنني للأسف لا أعرف الصيد ولا العوم. لهذا بقيت طوال حياتي القصيرة أحب شيئا أسمع عنه ولا أراه. ولهذا السبب أيضا حلمت قصصا عجيبة تشبه مغامرات السندباد وجول فيرن وموبي ديك طبعا لم تكن بالضرورة متوافقة مع الواقع البري أو البحري بكل تفاصيله التي تدمنونها.
نعم كانت تصلنا عربة سمك مجمد تقطع مسافات طويلة لتصل إلينا وكنا نستقبلها بحفاوة زائدة فكنا نشتري السردين كله ليس عشقا لهذا السمك البراق المغفل الجاحظ العينين كمصدوم، وإنما كي لا تذهب الشاحنة إلى قرية الجزيرة المجاورة لنا. لا نحبها أن تشترك معنا في أي شيء، أحيانا يحمل أحدنا كمية من السمك ولا يستهلك منه إلا قسطا يسيرا والباقي يرميه للقطط والمشردين. أنا شخصيا لا أفهم لم تنشب العداوة بين الجيران ؟ من جارك في البيت المجاور إلى القرية المجاورة إلى المدينة المجاورة إلى الدولة المجاورة !
كنت في صغري أمتنع عن أكل السردين بدعوى أنه ميت. عيونه المتحجرة كانت ترعبني والآن أعرف لم كنت أكرهه لأن في جوفه قطعا من لحمنا والبحر أيضا كرهته لأنه يؤثث أعماقه بهيكلنا العظمية.
وعندما أستيقظ من نومي أخرج من صراع قدري مع حيتان البحار العظمى التي أسمع عنها ولم أرها إلا في أحلامي. كانت رائحة البحر والسمك تحوم حولي كغمامة ملاك صغير، وكأن قدري لن يكون سوى في البحر. خصوصا وأن قريتنا عين العميان لم يعد لهويتها من معنى. نبع الأساطير والمعجزات جف منذ سنين وبقي بعض العميان القادمين عن طريق الخطأ إلى قريتنا يتشبثون بالخرافة في انتظار المعجزة.
 العميان الذين يصلون إلى القرية لا يحملون معهم شيئا جديدا. عندما كنت أسأل عما يوجد خلف العين والغابة والجبال كانوا يردون الجبال والغابة والعين. وعندما أحتج على أجوبتهم الضريرة يدفعونني بعصيهم وكأنهم يدفعون حقيقة موبوءة.
كنت كل صباح باكر أقتفي أثرهم وهم ينزلون إلى العين باحثين عن شعرة أمل وحين لا يجدون غير الحصى الساخن الراقد في جوف العين يرتدّون إلى ذكرياتهم القاسية. لا تصلني من أحاديثهم غير إشاراتهم المبالغ فيها وهم يلوحون بعصيهم وكأنهم يحاربون طواحين الهواء.
الآن وبعدما حدث ما حدث، يمكنني التفكير أن الطبيعة لم تكن أبدا رحيمة بنا بل كانت كقلب ديكتاتور مجنون بالعظمة. نحن لا نملك غير التراب والسماء التراب بين أيدينا والسماء في عيوننا نمد إليها رجاءنا أن تمطر، لكنها تنسحب بزرقتها المخادعة دون أن ترد.  ولأن الشمس تحبنا بمازوشية فهي تحنو على رقابنا بضوئها اللاهب. قطعا لن نحب الأرض لأنها بدون فائدة في سهولنا الافريقية ولن نحب أمهاتنا اللائي أخرجننا إلى الشمس نتيجة خطأ في تناول أقراص منع الحمل ولن نحب آباءنا لأنهم لا يجدون ما يفعلون غير مضاجعة أمهاتنا المستسلمات.
لا أريد في الحقيقة أن أشغل بالك بهذه الترهات. المهم أني تعلمت تلحيم الحديد كي أهرب من مدرسة بعيدة ومعلمين يائسين من كل شيء. ولم تكن الحياة جميلة بين صراع مع الحديد والنار ومعلم يحب مؤخرتي أكثر من عملي، فهربت في أول فرصة إلى سهول الفلفل الأحمر حيث تعرفت على شاحنات السائقين الاسبانيين ولأنهم يصلون في حالة مزرية من التعب ينامون نوما عميقا في انتظار شحناتهم الجديدة.
كنا حولها نحوم كعقبان تنتظر بقايا وليمة. وحين سنحت لي فرصة حقيقية  للعبور إلى الضفة الأخرى، عضضت عليها بالنواجد، لكن قبل مغادرة الشاحنة الموقف ضبطني سائقها فهربت. ولأن التكرار يعلم الحمار فقد تعلمت كيفية حشر جسدي بين دفتين من الحديد تاركا جسدي مصلوبا بينهما وكأني قطعة حديدية إضافية.
في طريقتي الناجحة هذه، كانت الهواجس تتلاطمني: هنا يلقى عليّ القبض، هنا يشبعونني ضربا...
كنت أسمع حكايات عجيبة عن موت الكثير من العابرين السريين غرقا في البحر، لكني لم أسمع أبدا أن أحدا مات تحت عجلات الشاحنات.
أرجو أن لا أكون قد أزعجتك بقصتي، تعرف منذ تلك الحادثة التي قطعت فيها ساقي، لم أتحدث مع أي أحد، حتى عندما جاءت الشرطة الاسبانية تستعلم عن هويتي وظروف حادثتي لم أتفوه بكلمة واحدة، لكن معك أنت الأمر مختلف ربما لأنك (حراك) مثلي.
أشار زميلي في الغرفة إشارات تدل على أنه فهم حكايتي، لكنه لم يكن بمقدوره الكلام. بقيت عينيه شاسعتين كعيون العميان ترى دون أن ترى شيئا.