sábado, 3 de julio de 2010

الحريق. محمد زيتون. شفشاون، المغرب

الحريق

محمد زيتون
شفشاون، المغرب.
الفائز بـ"جائزة معبر المضيق 2009". فئة العربية
.



 المرأة التي دخلت المقهى منذ لحظة، هي .. التي كان يعني في حديثه المقتضب. والذين كانوا من حوله، وقد تعودوه صامتا، لم يجدوا فيما عناه أي شيء ذا أهمية تذكر، لذلك لم يولوه اهتماما.. لكنه عندما اضطرب، أطفأ دبالة الدخان، وانسحب إلى سابق قوقعته كسلحفاة داهمها الغم .
لقد لبت جامدا، متوثب الملامح أمام وجهها، ظنها عرفته بعد كل هذه السنين الطويلة، لكن أحدهم تفضل، وجاد عليها، فانصرفت عن الطاولة إلى غيرها. ثم ما لبت أن اختفى لون ثوبها من فضاء المقهى. فانسحب من بين مجالسيه دون أن تصدر عنه ولو إشارة وداع. و أسرع..كالهارب من نفسه.كل شيء فيها كان يطارده.. قلبه يتكسر و يتشظى..كقطع زجاج على صخرة ملامحها الساذجة، وهي ماثلة في باله بهيأتها تلك. وأمام جثته المتهالكة يتمطط السراب كهر بشع، بينما تتلبس دكنة الغيوم الألوان والأشياء.
وقف على رصيف الطرق المتقاطعة في حاشية الحي، مقلبا أنظاره صوب كل اتجاه،



أسفل شمس حارقة. يشعل السيجارة من عقب السيجارة، مرتعد الأصابع. يروح ويجيء، آملا أن تتاح له فرصة الابتعاد عن المكان بأسرع وقت ممكن. بينما السيارات تنطلق بسرعة توازي بعض جنونه، فور تباطئها عند نقطة التقاطع، غير مبالية بيده المتوسلة.
                            *                                     *                               *   
كان الأصيل يمد راحتيه بساطا سحريا، تختلج فوقه أعضاؤهما المتماسكة. وكان النسيم يعبر وديعا، غير مكترث بفحوى الهمسات، كاتما نبرة البوح النابعة من حنجرتين تصران على التمادي، بكرم ،كشلالات الجبال العالية. احتراما للسر، كانا ينسحبان قبل حلول الأصيل إلى ظل أشجار التين النابتة على ضفة النهر، يجلسان و أصابعهما متشابكة، وقلباهما يشقشقان بإخلاص على منصة التوتر و القلق. يتناغيان وكأن العين لم تبصر العين منذ زمن بعيد، بينما جدع الشجرة ذاته كان الشاهد والمؤنس في لقاء ما كاد يمر عليه يوم.
أما لحظة اكتساء ضفاف النهر بقطن السواد، واشتعال وجه السماء بالنجوم، لحظة يقتعد عرشه القمر، فغالبا ما ينسحبان خلف خافقيهما إلى بساط الضفة الأخضر، وقد غلفه الندى، ليحضنا شعاع الأماني المتراقصة في انعكاس بهيج على صهوة ماء النهر. النهر الذي تتدفق أمواجه واعية كل نبرة..كل همسة، حاضنة كل التويج الذي أتمرته أشواك الذكريات، .. كأنها شريط صامت يتوجع ما بين ضفتي قهر مزمن، ما ملكت سواعده إلا كتم أنفاس قد يترتب عن إمكان وجودها بصيص من الحلول .
أي حلول هذه الممكنة ؟- كان يقول – أي حلول يمكن أن تتولد في قرار الحديد ؟ الحديد لا يحس .. لا يفكر ... وحتى إذا ما فكر فإنما لمزيد من الإستقواء .. لمزيد من الغطرسة والتعالي ... حتى يبرأ من الصدأ.. أما نحن فأمامهم في.. هذه الضيعات الكبيرة .. مثل الضفادع .. مر عام الضفادع .. عاد عام الذباب.. سيأتي عام تصبح فيه الطماطم أرخص...
فتجيبه :                    
                              -  لسنا طماطم .. والزمن حتما سيتغير...
ولماذا لم يتغير في عهد جدك، وأبيك ... وأخيك الأكبر الذي فقد أنيابه.. وها أبناءه وبناته.. يتسابقون لصفد العرق في مزارع القهر...
.........................
الوضع يا حبيبتي لن يتغير ، نحن من يجب أن يتغير...
جادلته .. في ظل الضياع حين يغادرون للاستراحة ساعة الظهيرة، جادلته.. في عربة العمال المسحوبة خلف جرار مصفح، جادلته في موقف العمال فجرا قبل امتطاء العربة ، جادلته في أماسي الخضرة على ضفة النهر...جادلته طويلا.. وفي الأخير أوقعها في حبال رأيه ، فاعتقدته سديدا.. و أخذت تجادل بمنطقه الآخرين، حتى بعد غيابه.
                              -  نحن من يجب أن يتغير...
قالها و أعادها ، و صوغ رحيله... وما غير شيئا ! انتظرته فصول القطن كلها. ثم أفلس القطن في الضياع ، وجمع المعمل قطع غياره ورحل ، وحلت فصول الفلفل الأحمر ، فانتظرته كل فصول الفلفل ، انتظرته حتى أصبحت أنفاسها خربة جراء آفة الربو، وتغضن الأمل الذي طالما سطع على وجهها، وصارت واهية حروفه ، فغادرتها ملامح الحسن ، وطردتها الأحزان من إطاره ، لتلاحقها علل العنوسة ... و ألسن ادخرت القرية لعابها ريثما :"لن يعود". وها قد رحل ، وتغير كل شيء، وما عاد .. يتذكر.. ! 
على ضفة النهر أسندت خدها طويلا ، أهالت من الدموع سيولا.. حتى تشكلت مسارب الدمع على خديها. وفرملت فجأة أنظارها على حافة البصر. ما أنجبت ولدا، تهدهده، كما كانت تتمنى، وما احتفلت رفقته بعرس فتاة. لم تلبس في أصابعها خاتما ، ولم تكتسي جثثها النحيلة برقع الألوان الفخمة ، ولم تتعطر بالهدايا التي كان من المتوقع أن يعود بها...
لقد سافر .. وترك غيوما باذخة شادها في رأسها.. ما أمطرت إلا أنين الخيبة.
 كان على وشك أن يخطبها، تقدم لخطبتها فعلا.. تعاهدا معا ، واعده أبوها فور إن عاد بالخير إن شاء الله... ولم يتقدم بعده أحد لخطبتها. مل الأب وتضجر كثيرا من غيابه وصمته ، حسب ذلك نسيانا ، وتوعد أن يزوجها لأول من يتقدم. وتقدم الكثير من الفتية و الرجال، فما لاينت أحدا، وما هادنت جحافل الوعود.. وما استرزقت بترهاتهم كما الأخريات من صويحباتها بعيدا عن الحب. ولا اعتنت بهم لتحقيق أماني الغريزة، مولية ظهرها لوعود الغائب.
لقد ظل غائبا ، صامتا ، كاذبا ، غادرا... لكنه استمر حاضرا..ساطع الابتسامة في خلدها، جامحا... حتى أرداها قتيلة في وهاد الاختلال. منعزلة تكلم نفسها في كهف العتمة، وتتذكر :
سأسافر من أجلك وحدك...(ثم يضيف) سأخاصم كل بنات حواء..
إيه.. عليكم أيها الرجال...
كل الرجال و النساء في تلك الضفة و أنا و أنت في هذه...
فتسأله :                      - هل تحبني؟؟؟
قليلا.. !
وعندما تبدي انزعاجها ، وتضرب صدره بقبضتها ، كان يصيح بفرح :
 أموت في بحار حبك...
فتبتسم .. وينطلق رذاذ عينيها :
و لما البكاء حبيبتي ؟
... لا أعرف !
وينهض غاضبا متضجرا :   -    ..أوووه...
و تصيح باكية :              -    لا أعرف ماذا.. سيحدث ؟؟؟ لا أعرف...
وما الذي  سيحدث ..؟
أخاف أن تموت  أو تنساني !
فيتناول وجهها بين يديه :  -  الأعمار بيد الله ..
 ثم يصيح :                  -  والبحر سافل وحقير و أحمق.. إذا اشتهى جثة هزيلة مثل جثتي ...
ولكنك ستنساني ؟ !!
و هل ينسى القمر ؟؟؟ سأعود بعد عام على الأكثر بالسيارة والمال..سنبني عشنا وننجب أطفالا .. تقي ب سأعود...
 فتأخذه في أحضانها، وتودعه أمام الآخرين كزوجها، فرحة برحيله، تتوسم عودة ظافرة قريبة، قبل أن تستقبلها جدران الوحدة الرتيبة، وتجرفها أمطار الدموع.
                          *                                              *                                    *
 يتذكر الآن حينما غادر، يتذكر وجهها الدامع بفرح، وقد استقبله البحر بأمواج متلاطمة، وقر أودى بأكثر ما ادخرت أوصاله من حرارة. و وشم الخجل على خديها يدغدغه، ينير ليله عوضا عن القمر الذي غاب طول الليل .. وهو يرقص فوق الدياجير، ماخرا في الملوحة و التعب. جروحه تتقيح أكثر من ذي قبل، و أضواء الضفة الأخرى تزرع في أحشاءه مناعة اليقين بغد أكبر من الأمس، أكبر من اليوم، أكبر من لحظات الأسبوع الذي قضاه متخفيا.
مند أيام استقبلوه في محطة "طنجة" ، دلهم عليه بائع سجائر.  ساوموه، وأخذوا الثمن.. تركوا جيوبه فارغة، ثم هربوه في ليل بارد إلى غابة شوك و أحجار. كان الجوع يتضور كالكلب في أحشاءه، وجد آخرين مثله في الظلام والجوع والبرد، الجميع يتربصون بالبحر، يتوقعون هدوءه. جعجعة في داخلهم تكبر و تتنامى ضد قساوة الظروف، لا أحد يلتفت للخلف إلا ليشحذ قوته من أجل مزيد من الإقدام، لاشيء كان يعنيه في الخلف إلا وجهها.. و أم باكية، و أخ لا يتأوه في ضياع القهر. غير مسموح للرجولة أن تهادن، غير مسموح لها أن تبكي أو تعوي بعللها الكثيرة :
قاوم بني.. قاوم.. الغربة كلبة.. لعينة.. الغربة دئبة.. تترصدك بعيدا عن صدر أمك...
مع الفجر سلمه البحر للسعال والحمى، حافيا، بليلا، باردا... دخل غابة أشجار، وتجلد رفقة آخرين. هزمه المرض، فتركوه... وانطلقوا.. قاوم وقاوم... خلفهم حتى أشرقت الشمس. كانت المسافة مريحة بينه وبين خفر السواحل، فتوجه تحت ضغط الحاجة إلى مجموعة بيوت منعزلة. مدوه بالخبز، والخمر، وبعض الثياب، ضمدت شقراء جراحه، ومنحته قنينة دواء، وعبوة أقراص مهدئة. أمسك بيدها باكيا من الألم، فاحتفظت به في سريرها كخنزير لا يتقن إلا الأكل والشراب و الخيانة. زوجها كان يلاطفه، بينما عضلات النسيان تنتعش في ذاكرته، وهي تعريه، و تتعرى...
أتقن اللغة، وأخلاق السرير، واستبدل الشقراء العجوز بأخرى.. و أخرى... تبادلته الحانات، والكؤوس، والمضاجع، و زوايا التسول أمام أبواب الكنائس، وأسواق المسروقات.. وسريعا مرت الأعوام! فأصبحت تعافه الغربة.. لا صحة  استمرت سندا يعول عليه.. و لا شبابه خلد رأسمال للمقامرة. فاستبدل المكان و الزمان بمسافة، ومساحة أوفر حظا. طاف كل مسالك الغربة الممكنة. لا هاتفا انتعش عبر أسلاكه بنبرتها، ولا عنوانا امتلكه حتى يأتيه خطاب بريد :
لعلهم يعتقدون أني ميت.. و أنا ما أزال حيا في هذا الموت...
دون هوية تبادلته الحدائق، والشوارع، والأبنية المتهالكة.. ومزارع الاستغلال. دون هوية عاد إلى قرية انسلخت من كل معارفه، واستقبلت سحنا غريبة، ومظاهر جديدة ، لكنها مازالت على روعة التقدم الذي أحرزته مرفأ لانطلاق أمثاله.. شبابا في مثل السن الذي كانه في يوم ما .. وعطش يتجدد إلى عبور جسر البرد و الليل و الجرح... متشظيا عاد إلى أرض ما تزال تربتها بساطا لأرجل حبيبته الحافية.. العذراء.. الذابلة ...
تمشي ملفوفة في كفن التجاعيد، ترفل في أردية الخيبة، ومن جسدها الصدئ تتناهى روائح الدخان، و البول، والذباب... و ابتسامة بريئة في غيمة القدر. وفي داخله حطام ما ظنه سيلتهب فور رآها تمد أياديها المرتعشة في المقهى، وقد دوى زلزال الوعد المقطوع :              
- سأعود.. سأعود.. نحن من يجب أن يتغير !!!

 - تستعمل هذه الكلمة في اللهجة المغربية للدلالة على ما يعرف إعلاميا بالهجرة السرية، من المغرب إلى أوربا  باعتماد ما يسمى قوارب الموت...

1 comentario:

Anónimo dijo...

Un magnifico relato, lleno de hermosas palabras para describir y cantar al facaso y la misería. Carne jóven y fuerte expuesta en los bares, ardines y edificios en ruinas para las arrugas rubias y morenas a cambio de un cobijo, un miserable cobijo. Al despertar del letargo y mira su imagen en el espejo ya no encentra nada. Las viejas arrugas, las pieles secas, y el olor a tabaco barato y vino de cartón ya se habían apoderado de su cuerpo y espíritu.En definitiva un deshecho humano que ni la mar del sur ni la de norte acepta.